فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول}.
يعني المنافقين، يقولون بألسنتهم آمنا بالله وبالرسول من غير يقين ولا إخلاص.
{وَأَطَعْنَا} أي ويقولون، وكذبوا.
{ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين}.
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)}.
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} قال الطبري وغيره: إن رجلًا من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرضٍ، فدعاه اليهودِيّ إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافق مبطلًا، فأبى من ذلك وقال: إن محمدًا يَحيف علينا؛ فلنُحَكِّم كعب بن الأشرف؛ فنزلت الآية فيه.
وقيل: نزلت في المغيرة بن وائل من بني أمية، كان بينه وبين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه خصومة في ماء وأرض فامتنع المغيرة أن يحاكم عليًّا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنه يُبْغِضني؛ فنزلت الآية، ذكره الماوَرْدِيّ.
وقال: {لِيَحْكُم} ولم يقل ليحكما لأن المعنيّ به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما بدأ بذكر الله إعظامًا لله واستفتاح كلام.
الثانية: قوله تعالى: {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي طائعين منقادين؛ لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحق.
يقال: أذعن فلان لحكم فلان يُذعِن إذعانًا.
وقال النقاش: {مذعنين} خاضعين، مجاهد: مسرعين.
الأخفش وابن الأعرابي: مُقِرّين.
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} شكّ ورَيْب.
{أَمِ ارتابوا} أم حَدَث لهم شك في نبوّته وعدله.
{أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي يجور في الحكم والظلم.
وأتى بلفظ الاستفهام لأنه أشد في التوبيخ وأبلغ في الذّم؛ كقول جَرير في المدح:
ألستم خير من ركب المطايَا ** وأنْدَى العالمين بُطُونَ راحِ

{بَلْ أولئك هُمُ الظالمون} أي المعاندون الكافرون؛ لإعراضهم عن حكم الله تعالى.
الثالثة: القضاء يكون للمسلمين إذا كان الحكم بين المُعَاهَد والمسلم ولا حقّ لأهل الذِّمة فيه.
وإذا كان بين ذِمِّيّين فذلك إليهما.
فإن جاءا قاضي الإسلام فإن شاء حكم وإن شاء أعرض؛ كما تقدم في المائدة.
الرابعة: هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذمّ من دُعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم فقال: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مرض} الآية.
قال ابن خُوَيْزِمنداد: واجب على كل من دُعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو عداوة بين المدّعي والمدّعى عليه.
وأسند الزهراوِي عن الحسن بن أبي الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يُجب فهو ظالم ولا حقّ له» ذكره الماوَرْدِيّ أيضًا.
قال ابن العربي: وهذا حديث باطل؛ فأما قوله: «فهو ظالم» فكلام صحيح، وأما قوله «فلا حقّ له» فلا يصح، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}.
نزلت إلى قوله: {إلا البلاغ المبين} في المنافقين بسبب منافق اسمه بشر، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعا هو إلى كعب بن الأشرف فنزلت.
ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبع ذلك بذمّ قوم آمنوا بألسنتهم دون عقائدهم.
{ثم يتولى فريق منهم} عن الإيمان.
{بعد ذلك} أي بعد قولهم {آمنا} {وما أولئك} إشارة إلى القائلين فينتفي عن جميعهم الإيمان، أو إلى الفريق المتولي فيكون ما سبق لهم من الإيمان ليس إيمانًا إنما كان ادّعاء باللسان من غير مواطأة بالقلب.
وأفرد الضمير في {ليحكم بينهم} وقد تقدم قوله: {إلى الله ورسوله} لأن حكم الرسول هو عن الله.
قال الزمخشري: كقولك أعجبني زيد وكرمه يريد كرم زيد ومنه:
ومنهل من الفلافي أوسطه ** غلسته قبل القطا وفرطه

أراد قبل فرط القطا انتهى.
أي قبل تقدم القطا إليه.
وقرأ أبو جعفر {ليحكم} في الموضعين مبنيًا للمفعول و{إذا} الثانية للفجاءة.
جواب {إذا} الأولى الشرطية، وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل في إذا الشرطية خلافًا للأكثرين من النحاة، لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
وقد أحكم ذلك في علم النحو.
والظاهر أن {إليه} متعلق بيأتوا.
والضمير في {إليه} عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأجاز الزمخشري أن يتعلق {إليه} بمذعنين قال: لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص.
وقد رددنا عليه ذلك وفي ما رجح تهيئة العامل للعمل وقطعه عن العمل وهو مما يضعف، والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معه إلا الحق المرّ والعدل البحت يزورون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم الحق على خصم أسرع إليك كلهم ولم يرضوا إلا بحكومتك.
{أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون} {أم} هنا منقطعة والتقدير: بل ارتابوا بل أيخافون وهو استفهام توقيف وتوبيخ، ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم، وهذا التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة مما يوبخ به ويذم، أو مما يمدح به وهو بليغ جدًا فمن المبالغة في الذم.
قول الشاعر:
ألست من القوم الذين تعاهدوا ** على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر

ومن المبالغة في المدح.
قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح

وقسم تعالى جهات صدودهم عن حكومته فقال {أفي قلوبهم مرض} أي نفاق وعدم إخلاص {أم ارتابوا} أي عرضت لهم الريبة والشك في نبوته بعد أن كانوا مخلصين {أم يخافون} أي يعرض لهم الخوف من الحيف في الحكومة، فيكون ذلك ظلمًا لهم.
ثم استدرك ببل أنهم {هم الظالمون}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول}.
شروعٌ في بيان أحوالِ بعضِ مَن لم يشأ الله هدايتَه إلى الصِّراطِ المستقيمِ. قال الحسنُ: نزلتْ في المُنافقين الذين كانُوا يُظهرون الإيمانَ ويُسرُّون الكفرَ، وقيل: نزلتْ في بشرٍ المُنافقِ خاصمَ يهوديًّا فدعاهُ إلى كعبِ بنِ الأشرفِ واليهوديُّ يدعُوه إلى النبي عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقيل: في المغيرةِ بنِ وائلٍ خاصمَ عليًّا رضي الله عنه في أرضٍ وماءٍ فأبَى أنْ يُحاكِم إلى الرَّسُولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأيًّا ما كان فصيغةُ الجمعِ للإيذانِ بأنَّ للقائلِ طائفةً يُساعدونَهُ ويُشايعونَهُ في تلك المقالةِ كما يُقال: بنوُ فلانٍ قتلُوا فُلانًا والقاتلُ واحدٌ منهم {وَأَطَعْنَا} أي أطعناهُما في الأمرِ والنَّهيِ {ثُمَّ يتولى} عن قبول حُكمِه {فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذلك} أي من بعد ما صدرَ عنهم ما صدرَ من ادِّعاءِ الإيمانِ بالله وبالرَّسولِ والطَّاعةِ لهما على التَّفصيلِ، وما في ذلك من معنى البُعد للإيذانِ بكونه أمرًا معتدًّا به واجبَ المُراعاةِ {وَمَا أُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى القائلينَ لا إلى الفريقِ المتولِّي منهم فقط لعدمِ اقتضاءِ نفيِ الإيمانِ عنهم نفيَه عن الأوَّلينَ بخلافِ العكسِ فإنَّ نفيَه عنِ القائلينَ مقتضٍ لنفيِه عنهم على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وما فيه مِن مَعْنى البُعد للإشعارِ ببُعد منزلتهم في الكفر والفسادِ أي وما أُولئك الذين يدَّعُون الإيمانَ والطَّاعةَ ثم يتولَّى بعضُهم الذين يُشاركون في العقدِ والعملِ {بالمؤمنين} أي المؤمنينَ حقيقةً كما يُعرب عنه اللامُ أي ليسُوا بالمؤمنينَ المعهودين بالإخلاص في الإيمان والثَّباتِ عليه.
{وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ} أي الرَّسولُ {بَيْنَهُمْ} لأنَّه المباشرُ حقيقةً للحكمِ وإنْ كانَ ذلك حكمَ الله حقيقةً. وذكرُ الله تعالى لتفخيمه عليه السَّلامُ والإيذانِ بجلالة محلِّه عنده تعالى {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} أي فاجأ فريقٌ منهم الإعراضَ عن المحاكمةِ إليه عليه السَّلامُ لكون الحقِّ عليهم وعلمِهم بأنَّه عليه السَّلامُ يحكمُ بالحقِّ عليهم وهو شرح للتَّولِّي ومبالغةٌ فيه.
{وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق} لا عليهم {يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} مُنقادين لجزمِهم بأنَّه عليه السَّلامُ يحكمُ لهم. وإلى صلةٌ ليأتُوا فإنَّ الإتيانَ والمجيءَ يُعدَّيان بإلى، أو لمذعنين على تضمينِ معنى الإسراعِ والإقبال كما في قولِه تعالى: {فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} والتقديمُ للاختصاصِ.
{أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} إنكارٌ واستقباحٌ لإعراضِهم المذكورِ وبيانٌ لمنشئه بعد استقصاء عدَّةٍ من القبائح المحقَّقةِ فيهم والمتوقَّعةِ منهم وترديدِ المنشئية بينها فمدارُ الاستفهام ليس نفسَ ما وليتْه الهمزةُ وأَمْ من الأمورِ الثَّلاثة بل هو منشئيتها له كأنَّه قيل: أذلك أي إعراضُهم المذكورُ لأنَّهم مرضى القلوبِ لكفرِهم ونفاقِهم.
{أَمْ} لأنَّهم {ارتابوا} في أمر نُبوَّتِه عليه السَّلامُ مع ظهور حقيَّتِها {أَمْ} لأنَّهم {يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} ثمَّ أُضربَ عن الكلِّ وأُبطلت منشئيَّتُه وحُكم بأنَّ المنشأَ شيءٌ آخرُ من شنائعِهم حيثُ قيلَ: {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} أي ليسَ ذلك لشيءٍ ممَّا ذُكر، أمَّا الأوَّلانِ فلأنَّه لو كان لشيءٍ منهما لأعرضُوا عنه عليه السَّلامُ عند كونِ الحقِّ لهم ولمَا أتَوا أليه عليه السَّلامُ مُذعنينَ لحُكمِه لتحقُّقِ نفاقِهم وارتيابِهم حينئذٍ أيضًا وأمَّا الثَّالثُ فلانتفائِه رأسًا حيثُ كانُوا لا يخافون الحيفَ أصلًا لمعرفتِهم بتفاصيلِ أحوالِه عليه السَّلامُ في الأمانةِ والثَّباتِ على الحقِّ بل لأنَّهم هم الظالمون يُريدون أنْ يظلمُوا مَن له الحقُّ عليهم ويتمُّ لهم جحودُه فيأبون المحاكمةَ إليه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لعلمِهم بأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يقضي عليهم بالحقِّ فمناطُ النَّفيِ المُستفادِ من الإضراب في الأوَّلينِ هو وصف منشئيَّتِهما للإعراضِ فقط مع تحقُّقِهما في نفسِهما وفي الثَّالثِ هو الأصلُ والوصف جميعًا هذا وقد خُصَّ الارتيابُ بما له منشأٌ مصححٍ لعروضِه لهم في الجُملةِ والمعنى أمِ ارتابُوا بأنْ رَأَوا منه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تُهمةً فزالتْ ثقتُهم ويقينُهم به عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فمدارُ النَّفيِ حينئذٍ نفسُ الارتيابِ ومنشئيَّتُه معًا فتأمَّل فيما ذُكر على التَّفصيلِ ودَعْ عنك ما قيل وقيل حسبما يقتضيه النَّظرُ الجليلُ. اهـ.